في كل شيء … و يفصل بين كل شيء … دائما يكون ؛ في كل الأشياء … بل لربما وجوده ؛ هو جوهر كون الأشياء …
دائما يعطي لكل شيء صورة جديدة … يغير تعاريجه … يعيد رسم خطوطه … ثم يلونه من جديد … فيغدو شيئا جديدا … في صورة جديدة ..
قد لا نعرف متى يقوم بكل ذلك … أو كيف أو لماذا يقوم بكل ذلك … لكنه في النهاية وحده من يقوم به …
قد لا يكون موجودا بذاته … لربما نحن من أوجده … لكنه في النهاية موجود … بل إن وجوده بات حقيقة لا تقبل الجحود … فهو الآن من يرسم ؛ و يضع الحدود …
اسمه ؟؟؟.. أيا كان اسمه … اختلاف أو فرق أو أي شيء … فذلك لن يغير شيئا من عمله … و لن يثنه عن القيام بعمله … ألا وهو توضيح الصورة … و شرح الأشياء …
بين كل شيء … هناك اختلاف … بين النار و الماء ، بين السماء و الأرض ، بين الشمس و القمر ، بين النجوم و الكواكب … بين الأهل ، بين الإخوة ، بين المشاعر ، بين الذكريات …
دائما يكون هناك … دائما يكون … ليعطي لكل شيء … شيئا يميزه عن أي شيء …
حتى الجثث عن بعضها تختلف !
وحده هو الحقيقة … أمامه تركع كل الكذبات و الترهات … ووحده يبقى …
يبقى هناك … بين طاولتين … فوق كل منهما جثة !
أمام الجثة الأولى … يؤمن طالب الطب بأنه لا يخشى الموت … و بأنه بطل لا يخشى الجثث … و يباهي أصدقاءه بنبش محتواها من أحشاء و أمعاء …
و أمام الجثة الأخرى … يقف الطالب ذاته … دامع العينين .. مرتجف اليدين .. مطأطئ الرأس … و قد تسربل الحزن عباءة تلفه و من حوله …
يقف الشخص ذاته … متلاطم المشاعر .. مضطرب الأفكار … حائر اللب … حزين الفؤاد …
فعلا … الجثث ليست كلها جثث ! … و لا تشبه بعضها بعضا !
كيف لجثة جده الحنون … أن تشبه أي جثة أخرى … و هذه الجثة هي التي كانت تفيض فرحا كلما اقترب منها … و هذه الجثة هي التي كانت ترسم ابتسامة تغطي كل ملامح التعب و الألم … لمجرد رؤية هذا الحفيد !
كيف لمشاعر الحزن ألا تسير ثقيلة على كل بقعة من بقاع جسده و قد غاب فرح الجد بقدومه ! .. كيف له ألا يحزن على زوال ذلك الفرح !!
مجرد سكون … حالة يحس أنه يعرفها … بل يدرك أنه يعرفها … لكن في النهاية … تبقى مواجهة الحقيقة المرة … أصعب بكثير مما تأتي به الأحلام …
في النهاية … و أمام الحقيقة … تخر كل أسوار القوة و العزيمة … و تبقى وحدها تلك الحقيقة المرة … حقيقة أن جثة جده … لن تشبه بصورة أو بأخرى أي جثة مرت عليه … حقيقة أن النقاط المشتركة بين تقاطع دائرتيهما تفرض و بقوة … ألا تكون هذه الجثة كأي جثة … و ألا تتقاطع هذه الجثة مع أي جثة !!
حقيقة ترميه في ظلام بحر متلاطم الأمواج … مرة يأخذه الحزن … و مرة يجهش بالبكاء … كل المشاعر تتضارب هنا … أمام هذه الطاولة بالذات … إلا المشاعر التي اعترته أمام تلك الطاولة !
كيف لا … و هذه الجثة هي التي كانت مستعدة لتغيير خرائط العالم و حدود الدنيا … كانت مستعدة لتقيم حروبا و مجازر … بل و حتى حدائق ورد … و أي أي شيء … من أجل هذا الحفيد !
و الآن … سكون لعين يخيم على سكون !
يرفض أن يصدق ما هو أدرى الناس به ! … يرفض و يرفض … إلى أن تشارف الجثة على الرحيل …
شيء ما يدفعه و بقوة نحوها … حب ما … ألم ما … ذكريات ما … دموع ما … نبض ما … شوق ما … عقل ما ! … يدفعه نحوها … ليرتمي في أحضان ذلك الشيء الذي يدرك أكثر من غيره أنه لن يشعر بوجوده … و يهمّ بتقبيله … و تقبيله … دامع العينين … حزين الفؤاد …
شيء ما … لم يكن يؤمن بوجوده … يولد الآن ..
فعلا … كل شيء هنا … لا يشبه أي شيء ليس هنا …
يهمّ الناس بإبعاده عنه … يدرك عقله صواب ما يفعلون … و يأبى ذلك الشيء الذي ينبض في صدره تصديق ما يفعلون … إنهم يسلبون منه جده … لا شيء غير ذلك !
يرحل الجد الحنون … يرحل … و يبتعد … رويدا … رويدا …
لأول مرة … كل هذه المشاعر تسري في عروقه دفعة واحدة !
لأول مرة … تتسع حدقة عينه … و تزداد مداركه اتساعا تحت سياط حقيقة … أخذ يؤمن بوجودها … بل أيقن و آمن بوجودها … و كفر بكل الخرافات التي اختلقها …
حقيقة رسخت في كل ذرة من كيانه … و في كل ركن من أركانه …
فعلا … جثة عن جثة تختلف !
2010